مقالة فلسفية عن الذاكرة
الطريقة الجدلية
المقدمة
للإنسان ملكات ذهنية تميزه عن باقي الكائنات، تتمثل مصدرا أساسيا لإدراك العالم الخارجي ومعرفته، وتتمثل الذاكرة احداها فمن خلالها يتم تخزين الإدراكات الماضية وإعادة احيائها، مع الوعي بأنها جزء من الماضي، الذي سجل زمن حدوثها فإذا كان لهذه الملكية طبيعة، فإن علماء النفس قد اختلفو في تحديد طبيعتها.
ومن هنا نتسائل:
هل الذاكرة بطبيعتها فردية أم جماعية؟
الإتجاه الأول
الذاكرة ظاهرة سيكولوجية فردية، يشكلها الفرد فيحتفض بها ويعيد بنائها على طريقته الخاصة، و لا أثر فيها للعامل الإجتماعي، ذلك لكل فرد صوره و أحواله النفسية الشعورية الماضية، الخاصة به و التي ينفرد بها مما يجعل ذاكرته تختلف عن ذاكرة أي فرد آخر، حتى داخل زمرته الاجتماعية، وهذا ما أكده برغسون الذي رأى "أن الذاكرة الحقة، هي ذاكرة الشعور، الذي هو حالة نفسية شخصية وذاتية" فما في الفرد هو ملكه وعالمه الخاص به، الذي لا يشاركه فيه أحد، كونه مرتبط بوعيه الخاص.
وثبت أن الذكريات قوامه التركيز و الإنتباه و التهيؤ و الميل النفسي، كلها عوامل ذاتية لا علاقة لها بالمجتمع، فالإنسان يفكر بذاته وليس بغيره، وكل ما خزن يوضع و يتموضع في الا شعور، وعند الحاجة الذاتية المرتبطة بالموقف الراهن، يتم بعث ماحفظ بجهد ذاتي، يقول المفكر برغسون "أن الذكريات التي كنت أعتقد أنها ذهبت، تعود من جديد في الأحلام"، كما أن فرويد له قول في الذاكرة الفردية، ذلك "أن الشخص يتجنب قدر الإمكان إسترجاع الذكريات المؤلمة، ويعمد إلى نسيانها ويتذكر تلك التي يطمئن اليها".
إن الامثلة على على الطابع الفردي للذاكرة عديدة، فالتلميذ في الامتحان يعتمد على ذاكرته لا على ذاكرة الغير، كما أن مخزون الفكري لطبيب غير مخزون الفلاح أو غيره، كما أن تباين الأفراد في قدراتهم على الإحتفاظ و الإسترجاع، لدليل على الطابع الفردي للذاكرة.
النقد
الحقيقة أن للذاكرة قدرة فردية ترتبط بذات، لكن الإنسان لايعيش منعزلا بل مندمجا مع جماعته، التي كثيرا ما ترغمه على الاحتفاظ و الاسترجاع وتساعده على ذلك.
إن ربط الذاكرة بالنواحي النفسية الشعورية الذتية، كما تصورها برغسون يجعلها غير مفهومة و غامضة، اليس ما يسترجعه الفرد يحمل في طياته بدور الأنا الجماعي! رغم الأنا الفردي هو الذي يخزن ويسترجع.
فلا يحق القول أن الإنسان يتذكر ذاته فقط، بل يتذكر الحوادث المشتركة التي جمعته بزمرته الاجتماعية.
الإتجاه الثاني
إن التذكر كنشاط ذهني معرفي، يتشكل و ينبثق من الأطر الاجتماعية، و أن الذكريات المستدعاة من الماضي إلى الحاضر، صورة من صور المجتمع، فما يعتقده الفرد إنما يعود في أصوله إلى المجتمع، وما حياة الفرد النفسية في النهاية سوى انعكاس للحياة الاجتماعية التي ينتمي اليها، ويتفاعل مع أفرادها فيكون معهم علاقات بينة، هي بمثابة حوادث مشتركة تتحول فيما بعد إلى ذكريات، وبقدر ما تكون هذه العلاقات قوية ومتينة، تكون الذكريات قوية وأكثر حضورا، خلافا لذلك في حالة كونها ضعيفة.
لذا يفسر النسيان من خلال انتقاء الأطر الاجتماعية، أو عدم الالتفات الفرد إلى الجماعة، وهذا ماذهب اليه الفقيه هالفاكس حيث قال "أن الذكرى تعد إدراكا جماعيا، وأن الفرد لايمكنه بعث الماضي إلا باعتماد على فكرة زمرته، بأن الغير هو السبب في الذاكرة، وتلعب اللغة دورا بارزا في إحياء هذه الذكريات، كونها ظاهرة اجتماعية فكل دكريات تطابق الكلمات وتترجمها وتعبر عنها "، وقال أيضا "إننا ننطق بذكرياتنا قبل استحضارها"، وأن الجماعة التي ينتمى اليها الإنسان، تقدم له في كل لحظة الوسائل، التي يستعيد بها الذكريات شريطة أن يلتفت اليها، وأن الحياة اليومية تقدم لنا العديد من الأمثلة و الشواهد التي تتبث اجتماعية التذكر، التي تظهر في المناسبات الاجتماعية، فالامتحان تعد مناسبة اجتماعية، تجعل الممتحن بستدعي الخبرات الفنية و المعرفية التي تلقاها سابقا، كما تعزز العلاقات الأسرية حشد من الصور، التي تتحول إلى ذكريات مشتركة بين أفراد الأسرة الواحدة، و الإنسان لكي يسترجع ذكرياته فإنه يحدد إطارها الزماني و المكاني، فيقول حدث ذلك أثناء، أو قبل، أو في مكان كذا، وعليه فالذكريات بدون أطر اجتماعية، تبقى صورة غير محددة، و يقول أحد الفلاسفة لو كان الإنسان وحيدا، لما كانت له ذاكرة ولما كان بحاجة اليها.
النقد
لايمكن إنكار دور الفاعلية الاجتماعية في تحصيل الذكريات و استرجاعها، إلا أن ذلك لا يعني بصورة مطلقة أن هذه الوظيفة الذهنية من طبيعة اجتماعية، فلو كانت كذلك لما اختلف الأفراد في قدراتهم على الاسترجاع، ألا يفسر ذلك برده إلا اختلافهم في ميولاتهم و اهتماماتهم الخاصة بهم، المفرغة من العالم الاجتماعية ألا يتذكر الفرد حوادث شخصية لا علاقة لها بالغير، كما هو حال العزلة عندما نتذكر بذافع شخصي.
التركيب
إن إمام هذا التعارض، لا يسعنا إلا القول أن الذاكرة ظاهرة سيكولوجية ترتبط بالفرد، و لاكنها غير مقطوعة بالمؤشرات الاجتماعية، لذا فهي تتشكل من تفاعل القائم بين الأنا الفردي و الأنا الجماعي، لأنه لاوجود لذكرى من غير وجود فرد يختص بها، و في المقابل لا وجود لأفراد يعيشون بمعزل عن جماعة، وذاكرة وإن كانت ملكا للفرد فهي لا تتشكل إلا بحضور الأفراد، وهذا يعني أن كل ذكرى يوجد جانب فردي و اجتماعي.
الخاتمة
إن الذاكرة ازدواجية فردية وجماعية فردية، كونها تبنى وفقا لخصوصية الذات و اجتماعية، من حيث التأثيرات التي يفرضها الواقع الاجتماعي في إدراكات الفرد، فهي إذ تتفاعل ديناميكا بين الفرد و المجتمع.
ملاحظة: ستكون هناك عدة مقالات إبق على اتصال بالمدونة.
شكرا نرجو أن تكون قد استفدت
0 تعليقات